دور الشباب البحريني في الحركات الإحتجاجية بين الماضي والحاضر

[?????? ??? ?????????? ??????? ?? ??????? ? ????? ??????? ????? ??? ?????. ?????? ?? ???? ???] [?????? ??? ?????????? ??????? ?? ??????? ? ????? ??????? ????? ??? ?????. ?????? ?? ???? ???]

دور الشباب البحريني في الحركات الإحتجاجية بين الماضي والحاضر

By : Ahmed Al-Haddad أحمد الحداد

الشباب شعلة الحرية والنضال. لطالما أرتبط الشباب والطلبة في معظم الحركات الثائرة، ولا يمكن استثناء البحرين. فمنذ بداية الحركة النضالية في مطلع العشرينيات حتى هذا اليوم لم تتخلف القوى الشبابية والطلابية عن الشارع، إلا بمقدار بسيط يعود لأسباب أعتقد بأنه من المناسب أن تتداول للنقاش والترتيب. فمع رياح ربيع الثورات العربية التي عصفت بالبحرين ونظامها، كان للشباب البحريني دور خاص ورئيسي في إنطلاق الإحتجاجات في الرابع عشر من فبراير عام 2011 ، بعد دعوات أطلقها "شباب البحرين من أجل الحرية" عبر شبكات التواصل الإجتماعي، رافعاً شعارات مطلبية واقعية تتضمن إصلاحات جذرية في عمق المؤسسات السياسية، الإقتصادية، الأمنية والإجتماعية.

ومع إستمرار ثورة البحرين، تكوّن فصيل مهم من خلال حركة "دوار اللؤلؤة." وهم شباب ينتمي إلى مختلف التكوينات والتوجهات السياسية والفكرية في البلد، ليشكلوا ما يُعرف اليوم بـ"إئتلاف شباب 14 فبراير" الذي ينشط سرياً رافعاً مطلب إسقاط النظام. وعلى الرغم من وجود الكثير من مؤيدي هذه الحركة التي تنشط وتستخدم ورقة الشارع كوسيلة للوصول إلى المطالب، إلا أنها لا تمثل وجوهاً حقيقية ملموسة وعلنية أمام المجتمع، وبالتالي ليس لها حضور في الإجتماعات التنظيمية الموحدة التي تتشارك في عملية صنع القرار الثوري مع مختلف الفصائل السياسية والشبابية في البحرين. وبالرغم من وصولنا إلى العام الثاني لذكرى ثورة الرابع عشر من فبراير، إلا أننا لم نشهد إنخراطاً بارزاً لشباب وطلبة البحرين في المراكز القيادية للأحزاب السياسية المُعارضة في البحرين أو حتى في الجانب الموالي للنظام. فلم يشارك الشباب في تكوين رؤيتهم السياسية ولم يتبنوا مراكز قيادية فعَالة تتشارك في عملية التفاوض والحوار مع معارضيهم.

بالعودة إلى ماضي الحركات السياسية في البحرين، برزت حركات شبابية أنخرطت في الحركة النضالية الوطنية منذ بداية السبعينيات. وتشكل منها "الإتحاد الوطني لطلبة البحرين" (أوطب) كتنظيم طلابي نقابي يجمع في صفوفه الآلاف من الطلبة البحرانيين الدارسين في الجامعات العربية والاجنبية، خلال مؤتمر تأسيسي في دمشق في 25 فبراير 1972. كما تشكل الفصيل الشبابي للحركة النضالية في البحرين، وهو "إتحاد الشباب الديموقراطي البحراني" (أشدب)، في عام 1974 بعد اندماج "شبيبة جبهة التحرير الوطني البحرانية" و"الاتحاد الوطني لطلبة البحرين" في الداخل. وهو تنظيم شبيبي مستقل يربط ربطاً عضوياً بين المصالح العامة للحركة الشبابية والمصالح العامة للحركة الوطنية. وقد جاء كتنظيم ديمقراطي تقدمي يضم في صفوفه جماهير واسعة من شبيبة البحرين التي كانت مكوناً أساسياً  للحركة الشعبية في البحرين المؤلفة من مختلف الفصائل الوطنية والتقدمية. كما كان (أشدب) الذراع اليُمنى للحركة الوطنية في نضالها المرير من أجل الديمقراطية وتحقيق مطالب الشعب. ‪وواصلت الحركات الشبابية نضالها في الثمانينيات وكان للفصائل والقوى الأخرى في البحرين دور مهم في دمج الشباب والطلاب في العملية النضالية كالجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي والتي انبثق منها في أوائل الثمانينيات ما يعرف ب"منظمة الشباب البحراني‬."

واصلت هذه التنظيمات الشبابية والوطنية نشاطها. وصارت الوجه البارز للحركة النضالية في البحرين حتى نهاية التسعينيات. وكان لها أدوار بارزة منذ مطلع السبعينيات، حيث ساهمت في العديد من النشاطات والتكتلات السياسية، ولعل أبرزها كان الإنخراط في العملية السياسية عن طريق المشاركة في الحملات الإنتخابية لـ " كتلة الشعب" وعقد الندوات التعريفية بنشاط الشبيبة الفعّال. وتمكن الوطنيون والديمقراطيون من الوصول إلى قبة المجلس الوطني ومن بينهم الدكتور عبدالهادي خلف وهو في سن الثامنة والعشرين. بعد حل البرلمان عام 1975 وتطبيق قانون أمن الدولة الذي تعرضت بسببه الكثير من الكوادر الشبابية للإعتقال ونفي إلى خارج البلاد، لعب شباب البحرين الوطني دوراً كبيراً في نشر الوعي السياسي والثقافي. فصاروا الصوت المعبر عن شباب البحرين في الداخل والخارج حيث كانت هناك نشرة مركزية تصدر في داخل البحرين باسم "الشبيبة" وأخرى تصدر في الخارج باسم "طريق الشباب" توزع بشكل واسع في مختلف أنحاء البلاد. وكان "إتحاد الشباب الديموقراطي" آنذاك أيضاً عضواً بارزاً في "اتحاد الشباب العربي" و"اتحاد الشباب العالمي" (وفدي). وأستمرت المضايقات في الثمانينيات وسجلت فيها الحركة الشبابية و"إتحاد الشباب الديموقراطي البحراني" (أشدب) إستشهاد الدكتور هاشم العلوي تحت أقبية التعذيب في 18 سبتمبر 1986. وفي مطلع التسيعينيات واصلت الحركة الشبابية نضالها وإتخاذ المراكز القيادية بعد إطلاق العريضتين النخبوية والشعبية عام 1992 و1994 التي طالبت أمير البلاد آنذاك الشيخ عيسى بن بن سلمان آل خليفة بتفعيل الدستور المعلق منذ 26 أغسطس 1975 وإعادة الحياة النيابية، والتي تعرض على إثرها العديد من رواد العريضة للنفي والإعتقال التعسفي.

ونتيجة لنضال الحركة الوطنية والشبابية العريق في البحرين شهدت البحرين في فبراير2001 إنفراجاً سياسياً، حيث أمر آنذاك أمير البحرين حمد بن عيسى آل خليفة بالعفو العام الشامل وأصدر ميثاق العمل الوطني الذي يتضمن بنود دستورية على غرار الديمقراطيات العريقة، أعاد الأمل للشعب البحريني في التمثيل الديمقراطي والعدالة الإجتماعية التي غابت عن البحرين لعشرات السنين. وبعد الإنقلاب الدستوري سنة 2002 وإصدار دستور آخر بصورة منفردة، غابت الحركة الشبابية والطلابية النقابية عن الساحة السياسية وبدأت تبتعد بشكل تدريجي عن المشهد السياسي لأسباب عديدة، أهمها القيود التي فرضتها الحكومة على حرية تكوين النقابات الطلابية وممارسة نشاطاتها داخل الجامعات والكليات بهدف الدفاع عن القضايا الوطنية وترسيخ الديمقراطية، وبهدف استعادة الدور الذي كان يلعبه الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في الدفاع عن مصالح وقضايا الطلبة. كما لجأت الحكومة إلى فرض عقوبات تعسفية بحق الطلبة الممارسين لمثل هذه النشاطات داخل الجامعات أو الكليات. كما رفعت سن الإنضمام إلى الجمعيات السياسية، وسن الترشح والإنتخاب للمجلس الوطني الذي يخالف المواثيق الدولية المعمول بها. كما عمدت السُلطة إلى تهميش الشباب بعد وقف فكرة تنفيذ "برلمان الشباب" وهي مؤسسة وطنية مستقلة تحاكي تجربة المجلس الوطني وتهدف إلى أن تكون هناك أصوات ممثلة عن الشباب البحريني تجلس في منتدى وطني جامع يناقش هموم الطلبة والشباب البحريني، وكذلك تهدف إلى تثقيف الشباب البحريني وتشجيعه على ممارسة الحياة البرلمانية والتوعية بتاريخها وأصولها وإجراءاتها.

وبعد ثورة الرابع عشر من فبراير، أرتفعت نسبة الوعي المجتمعي بأهمية تفعيل دور حقوق الإنسان في هذه المراحل النضالية المهمة. ولعب الشباب أدواراً مهمة من خلال نضال المؤسسات الحقوقية المعنية بتوثيق وإصدار تقارير مراقبة أوضاع حقوق الإنسان. فلم تكف هذه المؤسسات يوماً ما عن مراقبة ورصد جميع الإنتهاكات التي يتعرض لها الشعب البحريني بشكل يومي ومستمر. ومن جانب آخر، كان للشباب المتواجد في الخارج دور مهم في التعريف بقضايا حقوق الإنسان للمجتمع الدولي من منظور النشاط الحقوقي غير المتعلق بعملية التفاوض السياسي والدبلوماسي. فقد أفرز الإحتقان الحقوقي في البحرين العديد من المنظمات والمجموعات المعنية بتوثيق حالات الإنتهاكات وبالتواصل مع المجتمع الدولي في ما يتعلق بالمسائل الحقوقية. وبالرغم من ضرورة وجود هذه التكوينات الحقوقية، فلقد كان لها دور سلبي في الوقت نفسه، فقد أثرت على إنخراط الشباب في المشاركة السياسية وفي الأحزاب السياسية وعلى توليهم مراكزاً قيادية.

وعلى الرغم من زيادة إنخراط الشباب في العمل السياسي وفي الأحزاب والجمعيات بعد الثورة، إلا أن هذه الاحزاب السياسية لم تستطع استيعاب الشباب وإعطائهم مسؤوليات قيادية شبابية ترتقي بمستوى التنظيم وصناعة القرار. ولعل هذه الأسباب تعود إلى الغياب التدريجي للحركة الشبابية والطلابية بعد 2001 والضربات الموجعة التي تعرضت لها الحركة الشبابية والطلابية في البحرين، وغياب التجربة السياسية لدى الجيل الحالي من الشباب البحريني والتي جعلته عاجزاً عن التأقلم في صلب جمعيات وأحزاب يسودها مناخ متجاذب فكرياً. وكذلك تتحمل الجمعيات والأحزاب السياسية في البحرين مسؤولية كبيرة على عاتقها لعدم دمج الشباب في المشاركة السياسية منذ نقل نشاط الجمعيات أو الأحزاب من سري إلى علني. ومن بين أسباب عزوف الشباب عن المشاركة السياسية نقاط عدة أهمها: تمسك "زعماء الأحزاب" بالقيادة بشكل بيروقراطي وغير ديمقراطي، ويُمثل هولاء الزعماء نسبة كبيرة من المناضلين القدماء الذين لا يُتيحون فرصة لبروز الوجه الشبابي. وبالإضافة إلى غياب ديمقراطية حقيقية داخل الأحزاب التي لا تتيح حرية النقد الفكري والذاتي، هناك غياب لبرنامج حزبي تقدمي شبابي واضح يلعب فيه الشباب دور القائد والممثل لشريحة مهمة في البلد وهي الطلبة والشباب. وأخيراً، هناك مسألة الإنتهازية عند بعض التكتلات المتواجدة في بعض الأحزاب السياسية التي فرضت فكرة عدم جدوى إنخراط الشباب في العملية السياسية، الذين  يُطلق عليهم أسم "مراهقيين سياسيين" أغلب الأحيان.

رسالتي من خلال هذه المقالة هي طرح تساؤلات حول غياب الشباب في عملية التنظيم السياسي على مختلف الصعد منذ بداية الألفية الثانية. فعلى الرغم من وجود حركة شبابية تسمى ب"إئتلاف شباب ١٤ فبراير" وثقلها في الشارع، إلا أنها ليست ذلك الكيان السياسي الذي له ممثليه وشخصياته. فقد كانت نشاطاتهم مقتصرة على الشارع الإحتجاجي بإعتبارهم غير منطويين تحت مظلة تنظيم الأحزاب السياسية، وكانوا أكثر تأثيراً على دينامكية ومناخ الحياة الإحتجاجية والسياسية. فمنذ إعادة الحياة الدستورية عام ٢٠٠١ وحتى هذا اليوم - وعلى الرغم من إستمرار الثورة البحرينية التي أطلقها الشباب - يتم استغلال الشباب وتفعيل أدوارهم كأدوات للدعاية السياسية والتسويق السياسي عبر قنوات وأساليب مختلفة كشبكات التواصل الإجتماعي أو في المسيرات والتظاهرات الجماهيرية. كما يتم توظيف الشباب بشكل عشوائي في الشارع  تحت مظلة "إسقاط النظام" والذي يعرض حياتهم للخطر. وإستغلال الإنسان للإنسان مهما كان سنه الإجتماعي يعتبر إحاطة بالكرامة الإنسانية قبل السياسية.

كان للقيادات السابقة في أحزابنا الوطنية السياسية دور بارز في تفعيل دور الشباب والطلبة في المشاركة السياسية والثقافية. وساعدت الشبكات الإجتماعية في انخراط الشباب في التنظير السياسي والنقد الذاتي البناء، مما يدعوني وبلا شك أن أؤمن أن الشباب البحريني اليوم ما زال يملك قدراً كبيراً من الثقافة والفكر السياسي اللذين يشكلان جزء كبيراً في حركتنا الإحتجاجية. لذا فإنني أدعوا شباب وطلبة البحرين إلى الدفاع عن حقهم في المشاركة السياسية من داخل تلك الأحزاب السياسية وذلك عن طريق المطالبة بإتاحة فرص للوصول إلى مراكز قيادية داخل الأحزاب، أو حتى عن طريق تكوين تنظيمات شبابية وطنية موحدة تستعيد مجد تلك التنظيمات الشبابية العريقة التي لطلما كان لها حضور نضالي ووطني في الساحة، ولربما في عملية النضج السياسي والثقافة السياسية التي تحتاج إليها العديد من التنظيمات السياسية بغض النظر عن العمر‫.‬ فعملية التثقيف السياسي هي الأهم لبناء تنظيم قادر على إدارة الدولة في المستقبل‫.‬ فعلى سبيل المثال، من الممكن البدء بتفعيل ورشات عمل مبسطة لمختلف المواد العلمية كالعلوم السياسية والسياسة الدولية، الإقتصاد السياسي، النقد والنقد الذاتي، حقوق الإنسان، وعلم الإجتماع. كما نحتاج اليوم إلى بناء نواد سياسية تصقل قدرات الشباب وتفتح لهم قناة تُساهم في الحفاظ على حقوقهم ومشاركتهم السياسية وصناعة القرار‫.‬

في الختام، فالشباب هم البنية التحتية والعمود الفقري للوطن. هم الثورة الحقيقية للشعوب وأوطانها، بل أهم عامل للتنمية المستدامة في جميع الجوانب الحياتية. لذلك لابد من تهيئة الشباب وإشراكهم في عملية التنمية السياسية والإجتماعية.

سياسة الاستئثار واقتلاع الجذور

استهوتني قصة المشاريع العقارية الضخمة والمدن الجديدة التي سيطرت على النشاط الاقتصادي في دول الخليج العربية، لأنها تجسد في طياتها كل أوجه الخلل المزمنة التي تواجهها المنطقة. فيتجسد الخلل السياسي والاستئثار بالسلطة في الفساد الذي استشرى في صفقات الأراضي وعمليات ردم البحر (الدفان) الذي تطلبته هذه المشاريع، بالإضافة إلى انعدام دور غالبية المواطنين في التخطيط والموافقة على هذه المشاريع.

أما الخلل الاقتصادي المتجذر في المنطقة؛ فيبرز في الكميات الهائلة من الأموال التي أتت أساساً من الريع النفطي لتنصب في هذه المشاريع (حوالي 1.2 تريليون دولار)، والتي هي بدورها أيضاً نوعٌ آخر من الريع «العقاري». هذا بالإضافة إلى التركيبة المتشعبة من الشركات الاستثمارية والمطوِّرين العقاريين والبنوك التي تشكلت حول هذه المشاريع.

في المقابل؛ يتجلى الخلل السكاني المزمن في هذه المدن الجديدة الموجهة في الأساس لشعبٍ جديد ليسكن فيها، حيث تغيّرت رؤية ومعاملة متخذي القرار؛ إلى ظاهرة تدفق الوافدين من النّظر إليها كظاهرة عرضيّة لابد منها، هدفها سد متطلبات الإنتاج، إلى تبني استقطاب الوافدين كهدف أساسي ينبغي تبنيه لزيادة الطلب الاقتصادي عليه في دول المجلس.

تبين هذه المدن الجديدة بشكل جلي أن أوجه الخلل المزمنة في المحاور السياسية والاقتصادية والسكانية مترابطة وتغذي بعضها بعضاً في جدلية مستمرة، حيث لا يُمكن فصل هذه المحاور عن بعضها بعضاً والنظر إليها منفردة. وهذا التشعب المتعمق بين العوامل السياسية والاقتصادية والسكانية الحادة ينذر بخلطةٍ متفجرةٍ من الصعب التنبؤ بتبعاتها، بل إنه من شبه المستحيل على صنّاع القرار أن يتحكّموا في مسارها في خطط مرسومة مسبقاً.

طبيعة هذه المشاريع العقارية تشير إلى مسارين: إما أن تنجح هذه المشاريع العقارية، وبذلك تتحول الى مدن جديدة ضخمة يقطنها الملايين من السكان الجدد. في المقابل، قد تفشل المشاريع العقارية فشلاً ذريعاً، وتتحول إلى مبانٍ خاويةٍ ينبذها الناس، وتكون في نهاية الأمر مشاريع فيل بيضاء white elephants وعملية نصب كبرى مصيرها أن تكون مدن أشباح.

كلا الخيارين لايزال مطروحاً، ومن الممكن أن يحدث الاثنان على مر الزمن. فكثير من هذه المشاريع قد تم إيقافها في خضم الأزمة المالية العالمية. في المقابل؛ فإن الكثير من هذه المدن الجديدة؛ قد تم بناؤها فعليّاً وأصبحت مأهولة، كمنطقة المارينا في دبي وأمواج في البحرين. والقول بأن رؤوس الأموال والمتنفذين بها ستقف مكتوفة الأيدي وسترضى بأن تبقى هذه المشاريع شاغرةً؛ يعبر عن فهم ضيق لمنطق رؤوس الأموال وتحركاتها. وكما رأينا، فقد سمحت البحرين لملاك العقار الدولي بالتصويت في الانتخابات البلدية للعام 2010، كما مدّدت الإمارات مدة الإقامة المرتبطة بشراء العقار من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات في العام 2011. كما تدل تصريحات المسئولين عن هذه المشاريع على أنهم يتطلعون إلى إعادة المشاريع التي تم إيقافها متى ما سنحت الفرصة، هذا بالإضافة إلى نية لبناء مشاريع عقارية ضخمة جديدة.

النقطة الرئيسية هنا؛ هي أنه من المستحيل أن يتواصل الخلل السكاني في التراكم من دون أن تكون له تبعات جذرية مصيرية على المنطقة في المستقبل غير البعيد. بعض هذه التبعات تمت مناقشتها بإسهاب، بما فيها ازدياد أعداد الوافدين في سوق العمل، وتهميش دور المواطنين إنتاجيّاً وعدديّاً، بالإضافة إلى تشوّه الهوية العربية في المنطقة وازدياد حدة التعصب xenophobia بين صفوف بعض المواطنين. في المقابل؛ ستتواصل حالات الاضطهاد التي يتعرّض لها الكثير من العمالة الوافدة وتدني حقوقهم على المستوى الاقتصادي والسياسي، والتي بإمكاننا تلخيص هذه الإفرازات في حالة شديدة من «الاغتراب» التي يعيشها المواطنون والوافدون معاً.

أما بالنسبة إلى ظاهرة المشاريع العقارية؛ فلها معطياتٌ تختلف كمّاً ونوعاً عن ظاهرة توافد العمالة الأجنبية. ولعل الخاصية الأهم؛ هي بروز ظاهرة «المجتمع المغلق» أو ما يمكن تسميته «بالمدينة داخل المدينة». حيث يتم خلق مجتمع من «الكانتونات» المنفصلة، تعيش كل مجموعة منها في منأى تام عن باقي الأطراف، لا يربطها ببعضها أي انتماء قومي أو ثقافي أو سياسي، ولا يكون هدفها الجامع سوى النمو الاقتصادي وتحريك رؤوس الأموال تحت إطار اللغة الانجليزية الحاضنة. هنا تصبح المدينة مفهوماً بالإمكان بناؤه وتجديده وإعادة تركيبه بشكل سريع بناءً على أهواء متخذي القرار والخبراء المنفذين للمشروع. والحالة الأساسية التي تميّزها؛ هي التغير المستمر في ملامح وعمران وحتى سكان المدينة، فلا البيوت ولا النخل ولا حتى البحر في مأمن من الهدم والاقتلاع والدفن. كل هذا قد يحصل في سنين بل أشهر معدودة، فلو قُدّر لأحدٍ أن يشد الرحال إلى الخارج طلباً للعلم؛ لما عاد بإمكانه التعرف على المدينة أو سكانها عند عودته من الدراسة.

فالمدينة في الخليج لم تعد تعكس وتعبّر عن رغبات ونمط حياة أهلها وساكنيها، فهم عامةً مهمّشون ومن دون أي دور فعال في تحديد ملامحها العمرانية والاجتماعية. فها هم يشاهدون العمارات تعلو من حولهم وليس في يدهم إلا أن يراقبوا ويتأقلموا، فقد لا يكونون هم حتى من ساكني منطقتهم الحالية في المستقبل القريب. وهكذا تم هزّ واقتلاع الجذور التي كانت تربط السكان بمدنهم، وفي المقابل أمست المدينة مفهوماً متقلباً قد يتبدل هو وساكنوه في غضون أيام معدودة. وهكذا أصبح ما يحدّد شكل وحتى جغرافية المدينة ليس سكانها، والذين يتغيرون بنفس سرعة تغير المدينة، بل المردود المادي وتطلعات متخذي القرار.